قال الله سبحانه وتعالى ) إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( (1).
وقال الله سبحانه وتعالى ) تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ( (2) .
وقال الله سبحانه وتعالى ) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( (3) .
فالله عز وجل قد اقتضت حكمته أن يبتلى الرسل بأممهم ، والأمم برسلهم ، والحكام بالمحكومين ، والمحكومين بالحكام ، والقوى بالضعيف ، والضعيف بالقوى ، والغنى بالفقير ، والفقير بالغنى ، والصحيح بصحته ، والمريض بمرضه ، والزارع بمزرعته ، والتاجر بتجارته ، والصانع بصناعته .. الخ . فالكل مبتلى كلٌ على قدر دينه . فعن سعد رضي الله عنه قال : سُئل النبى صلى الله عليه وسلم : أى الناس أشد بلاءاً ؟ قال : " الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان صلباً في دينه اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقه هون عليه ، فمازال كذلك حتى يمشى على الأرض ماله ذنب " ( رواه الترمذى في الزهد ، وابن ماجة ، والدارمى ، وقال الترمذى هذا حديث حسن ) (4) .
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وأن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط " ( رواه الترمذى وحسنه ) (5) .
فطريق الدعوة هو طريق الإبتلاء فالنبى صلى الله عليه وسلم قبل الدعوة وهو في العبادة في غار حراء يتعبد .. قالوا عنه الصادق الأمين .. لكن لما جهر بالدعوة قالوا ( ساحر ، مجنون ، كذاب ، كاهن .. ) .
* الذهب قبل وضعه في الفاترينة لابد له أن يوضع أولاً في النار .
* فالابتلاء مادة الاختبار لأهل الإيمان .
* والابتلاء للمنافق يجعله كعود الكبريت المضىء سريع الإطفاء إذا جاءته الريح.
* والبلاء للمؤمن يجعله كالنار في الغابة كلما جاءتها الريح تزداد اشتعالاً .. وهذا يعنى أنه كلما يأتى المؤمن البلاء يزداد إيماناً على إيمانه وفي هذا يقول الرسول المصطفي الكريم صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة وتخر مرة ، ومثل الكافر مثل الأرزة لا تزال مستقيمة حتى تخر ولا تشعر " ( رواه الإمام أحمد عن جابر ) (6) .
* وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد " ( متفق عليه ) (7) .
وللبلاء صور مختلفة :
قال الله سبحانه وتعالى ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [ (
. فالصلوات والرحمة والهداية بعد الإبتلاء والصبر .. فمن صور الابتلاء ( الخوف ) كما في الأحزاب :
أخرج الحاكم و البيهقى عن عبد العزيز ابن أخى حذيفة رضي الله عنه قال : ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه : أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا فقال حذيفة رضي الله عنه : لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود وأبو سفيان ومن معه فوقنا وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهى ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه فجعل المنافقون يستأذنون النبى الكريم صلى الله عليه وسلم ويقولون أن بيوتنا عورة وما هى بعورة فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ويأذن لهم ويتسللون ونحن ثلاثة مائة ونحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً .. رجلاً حتى أتى علىَّ وما على جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط امرأتى ما يجاوز ركبتى قال : فأتانى وأنا جاثٍ على ركبتى فقال من هذا ؟ فقلت حذيفة ، فقال : حذيفة ، فتقاصرت للأرض قلت : بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية أن أقوم فقمت فقال : وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قراً قال : فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئاً .
قال : فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتينى قال : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيديه على النار ويمسح بخاصرته ويقول الرحيل .. الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك فانتزعت سهماً من كنانتى أبيض الريش فأضعه في كبد قوس لأرميه به في ضوء النار فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتينى فأمسكت ورددت سهمى إلى كنانتى ثم إنى شجعت نفسى حتى دخلت العسكر فإذا أدنى الناس منى بنو عامر يقولون : يآل عامر الرحيل .. الرحيل لا مقام لكم وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً فو الله إنى لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم تضرب بها ثم إنى خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت بى الطريق أو نحو من ذلك إذ أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين ، فقالوا أخبر صاحبك أن الله قد كفاه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلى فو الله ما عدا أن رجعت راجعنى البرد وجعلت أقرقف فأومأ إلىًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فدنوت منه فأسبل على شملته وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى فأخبرته خبر القوم أخبرته أنى تركتهم وهم يرحلون قال وأنزل الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً .. إلى قوله تعالى .. وَكَفي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً [ (9) .
( كذا في البداية ج 4 / 114 وأخرجه أبو داود وابن عساكر ) (10) .
ومن صور الإبتلاء ( الجوع ) الذى مر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أخرج أبو نعيم في الحلية عن سعد رضي الله عنه قال : كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ومرنَّا عليه وصبرنا له ولقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خرجت من الليل أبول وإذا أنا أسمع بقعقعة شئ تحت بولى فإذا قطعة جلد بعير فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين ثم أستفها وشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثاً (11) .. ومن أراد الاستزادة فعليه بكتاب .. حياة الصحابة رضي الله عنهم فهو مليئ بقصص جوع الصحابة الكرام رضي الله عنهم وهى أكثر من أن تحصى .
ومن صور البلاء ( نقص الأموال ) :
أخرج البيهقى عن أبى عمران رضي الله عنه قال غزونا المدينة يريد القسطنطينية ، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة فحمل رجل على العدو فقال الناس مه مه لا إله إلا الله يلقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب رضي الله عنه إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا : هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله سبحانه وتعالى ) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( (12) فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد . قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية (13) .
وهذا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم بسبب انشغالهم بالدين جاءهم النقص في الأموال والأنفس فصبروا وابتلوا بالجوع والخوف فصبروا .
ومن صور البلاء ( الابتلاء في الجسد بالمرض وفقد الأولاد ) :
- مثل سيدنا أيوب عليه السلام :
كان سيدنا أيوب عليه السلام كثير المال من سائـر صنوفه وأنـواعه مـن
الأنعام والعبيد والمواشى والأراضى المتسعة وكان له أولاد كثير فسلب منه ذلك جميعه وابتلى في جسده بأنواع من البلاء ولم يبق منه عضو سليم إلا قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما وهو في ذلك صابر محتسب ذاكر الله عز وجل ليله ونهاره وصباحه ومسائه (14) .
فنادى ربه .. ] وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ (15) وقال تعالى ] وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ *ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ (16) .
- ومثل عروة بن الزبير :
عن نافع بن ذؤيب قال : لما قدم عروة بن الزبير على الوليد بنعبد الملك فخرج برجله الأكلة فبعث إليه يعنى الوليد بالأطباء فأجمع رأيهم إن لم ينشروها قتلته ، فقال : شأنكم بها . قالوا : نسقيك شيئاً لئلا تحس بما نصنع قال : لا شأن لكم بها . فنشروها بالمنشار فما حرك عضو عن عضو وصبر ، فلما رأى القدم بأيديهم دعا بها فقلبها في يده ثم قال أما والذى حملنى عليك أنه ليعلم انى ما مشيت بك إلى حرام أو قال معصية .
وفي رواية أخرى عن هشام بن عروة :
قيل فقطعت وإنه لصائم فما تضور وجهه قال : ودخل ابن له أكبر ولده اصطبل فرفسته دابة فقتلته فما سمع من أبى في ذلك شئ حتى قدم المدينة ، فقال اللهم إنه كان لى بنون أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة فلك الحمد وكان لى أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة فلك الحمد وإيم الله لئن أخذت فلقد أعطيت ولئن ابتليت طالما عافيت (17) .
ومن صور البلاء أيضاً : ( الإبتلاء بالنعم ) :
قال الله عز وجل ) فَأَمَّا الأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( (18) .
وقال سبحانه وتعالى ) وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (19) .
فلابد أن يبتلى الإنسان بما يسره وما يسوؤه ، فالنعم من الله عز وجل يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور …
فسيدنا سليمان عليه السلام عندما رأى عرش بلقيس عنده قال ) هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ( (20) .
والأبرص والأقرع والأعمى .. كما في الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول إن ثلاثة من بنى إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً .. فأتى الأبرص فقال ( أى شئ أحب إليك ..؟ قال : لون حسن وجلد حسن ويذهب عنى الذى قد قذرنى الناس . فمسحه فذهب عنه قذره وأعطى لوناً حسناً ، فقال : في المال أحب إليك قال : الإبل أو قال البقر - شك الراوى – فأعطى ناقة عشراء فقال : بارك الله لك فيها .
فأتى الأقرع فقال : أى شئ أحب إليك ؟ قال شعر حسن ويذهب عنى هذا الذى قذرنى الناس فمسحه فذهب عنه وأعطى شعراً حسناً قال : في المال أحب إليك قال : البقر . فأعطى بقرة حاملاً . وقال بارك الله لك فيها .
فأتى الأعمى . وقال : أى شئ أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلىَّ بصرى فأبصر الناس فمسحه فرد الله إليه بصره . قال أى المال أحب إليك ؟ قال : الغنم . فأعطى شاة والداً فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا وادٍ من الإبل ولهذا وادٍ من بقر ولهذا وادٍ من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته . فقال : رجل مسكين قد انقطعت بى الحبال في سفرى فلا بلاغ لى اليوم إلا بالله ثم بك . أسألك بالذى أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ به في سفرى . فقال : الحقوق كثيرة . فقال : كأنى أعرفك . ألم تكن أبرص يقذرك الناس . فقيراً فأعطاك الله ؟
فقال : إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر . فقال : إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
وأتى الأقرع في صورته وهيئته ، فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثلما رد هذا ، فقال :إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بى الحبال في سفرى فلا بلاغ لى اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذى رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفرى . فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلىَّ بصرى ، فخذ ما شئت فو الله لا أجهدك اليوم بشئ أخذته لله عز وجل . فقال : أمسك مالك فإنما أبتليتم فقد رضى الله عنك وسخط على صاحبيك . متفق عليه (21) .
يقول الشيخ محمد عمر البلامبورى – رحمه الله - (22) :
متى يعرف أنه ابتلاء لترقية العبد ومتى يعرف أنه ابتلاء عذاب ونقمة ؟ إذا كان الابتلاء بعد الطاعة وامتثال الأوامر فهو نعمة لترقية العبد ، أولاً يأتى المشقة ثم يأتى الراحة. أما إذا جاء الابتلاء بعد المعصية مثل فرعون ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاتُبْصِرُونَ [ (23) . وقارون ] قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( (24) كانا أولاً في الراحة ثم أتى عليهما المشقة .
وقيل .. وُكِلَ البلاء بالولاء حتى لا يُدعى ..
فالذى يقول أنا مؤمن .. أنا موحد أنا مجاهد يأتيه البلاء .
قال تعالى : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( (25) .
لذلك يأتى الاختبار من الله عز وجل ) الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ( (26) .
وقال تعالى ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( (27) .
ولذلك جعل الله عز وجل الميزان هو الجهد .. قال تعالى
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( (28) وقال تعالى : ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( (29) وقال تعالى
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( (30) .
ويقول ابن القيم رحمه الله :
.. البلاء لابد له من صبر … والصبر ثلاثة أنواع بها يكتمل الصبر :
* حبس النفس عن التسخط بالمقدور .
* حبس اللسان عن الشكوى .
* حبس الجوارح عن المعصية ( كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعوى الجاهلية) .
فإذا صبر الإنسان صارت المحنة منحة .. والبلية عطية .. والمكروه محبوب .. فالله عز وجل ما امتحنه ليهلكه ولكن امتحنه ليختبر صبره وعبوديته فإن لله عز وجل عبودية في السراء وله عبودية في الضراء وله عبودية على العبد فيما يكره كما له عبودية فيما يحب ، وأكثر البشر يعطون العبودية فيما يحبون ولكن تتفاوت المنازل عند الله (31) .
والابتلاء … لماذا ..؟
1) ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب ..
- وقد سئل الإمام الشافعى : يا أبا عبد الله : أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟
- فقال الإمام الشافعى : لا يُمكن حتى يُبتلى فإن الله إبتلى نوحاً وإبراهيم و موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم (32) .
2) للإختبار : قال تعالي : )وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ((33) وقال تعالي : )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ( (34) {}
3) والله يبتلينا لنرجع إليه بالتوجه والدعاء والذل والمسكنة " اللهـم إنـى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى .. الخ " . والصبر على محن الدنيا أهون من الصبر على محن النار (35) .
* فالذى يريد الدين بدون أحوال كالذى يريد العوم والسباحة بدون أن يبتل والذى يريد الملاكمة بدون أحد يلمسه .
* الأحوال ليس مقصد ولكن مقصود الأحوال التربية .
* الله عز وجل ربى سيدنا إبراهيم عليه السلام في النار .
* الله عز وجل ربى سيدنا إسماعيل عليه السلام في وادى غير ذى زرعٍ .
* الله عز وجل ربى سيدنا يونس عليه السلام في بطن الحوت .
* الله عز وجل ربى سيدنا موسى عليه السلام في بيت فرعون .
* الله عز وجل ربى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في شعب أبى طالب ، وفي الغار .
* والصحابة تربوا في شعب أبى طالب ثلاث سنوات لأنهم الذين يذهبون إلى كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشى والعالم كله … فالله سبحانه وتعالى يُعدَهم للعمليات الخاصة لذلك فالله سبحانه وتعالى ما نزل عليهم المن والسلوى وأكلوا ورق الشجر ، الله سبحانه وتعالى يربى الداعى ويعلمه بنفسه .
* فالحكومة تدرب رجال الصاعقة في الصحراء وتدربهم على أكل الحيات مع أن الحكومة عندها الطعام الشهى وكذلك الفنادق .. حتى يكونوا رجال عند الشدائد .
* س : لماذا تأتى الأحوال على الداعي الخارج في سبيل الله عز وجل ؟
· ج : لأنه على طريق الأنبياء عليهم السلام وكان يصيبهم البلاء والامتحان والذى تأتى عليه الأحوال ويثبت ينزل الله عز وجل كيفيات القلب التى كانت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم (36) .
على الداعى أن لا يتأثر من الأحوال :
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تأثر بموت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بل تأثر بالأمر ( كيف يعزل أسامة وقد عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كلمة هى سبب قيام الدين في العالم إلى يوم القيامة .. أينقص الدين وأنا حى .. هذه الكلمة شعار كل مسلم إن لم تكن في حياته فهو ليس بمبلغ عن الله ورسوله .
واصبـر ..
إن الذين شرفهم ربهم بشرف القيام بالدعوة إليه عليهم أن يصبروا على إيذاء الناس لهم وعلى مقارعة الناس لهم ولا يكون ذلك إلا بالنظر في سيرة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والإقتداء بهم في مواجهة أقوامهم .
فقد قال الله عز وجل لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم :
] وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً [ (37) .
] فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ[ (38) .
] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [ (39) .
] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ [ (40) .
] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [ (41) .
ولقد أوصى لقمان عليه السلام ابنه وهو يعظه : ] يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [ (42) .
فالصبر من الصفات الأساسية التى لا غنى عنها للداعى ولا سيما إذا قورن الصبر باليقين فلا تنال الإمامة في الدين إلا بهما قال الله عز وجل ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [ (43) .
فبالصبر يبلغ الإنسان حاجته ، وباليقين يأتى الثبات على الأمر .
والخلاصة .. أن الصبر نوعان :
* اختيارى : ( الصبر على الطاعة والدعوة كما مر في الآيات ) .
* اضطرارى ( القدر المر ) : مثل الصبر على المرض ، وعلى ألم الضرب ، والجراح ، والبرد والحر ، وفقد الأولاد .
والصبر الاختيارى أكمل من الاضطرارى ، فإن الإضطرارى يشترك فيه الناس برهم وفاجرهم .. مؤمنهم وكافرهم .. (44)
واعلم أنه ما وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء .
كذا المعالى إذا ما رمت تدركها --- فاعبر إليها على جسرٍ من التعب
وقال المتنبي :
تُرِيدِينَ إِدْرَاكَ الْمَعَالِي رَخِيصَةً *** وَلا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْل
هذا الموضوع من أبواب كتاب كلمات مضيئة في الدعوة إلي الله
بقلم / محمد علي محمد إمام
----------------------
(1) سورة الإنسان - الآية 2 .
(2) سورة الملك - الآيتان 1،2 .
(3) سورة الكهف - الآية 7 .
(4) مشكاة المصابيح – باب عيادة المريض وثواب المرض – 1 / 492 .
(5) المرجع السابق – 1 / 493 .
(6) جمع الجوامع - السيوطى .
(7) مشكاة المصابيح – باب عيادة المريض وثواب المرض – 1 / 487 .
(
سورة البقرة - الأيات 155 : 157 .
(9) سورة الأحزاب - الآيات 9 : 25 .
(10) حياة الصحابة - 1 / 312 .
(11) المرجع السابق - 1 / 295 .
(12) سورة البقرة - الآية 195 .
(13) حياة الصحابة - 1 / 404 .
(14) انظر قصص الأنبياء - ابن كثير .
(15) سورة الأنبياء - الآية 83 .
(16) سورة ص - الآيات 41 : 44 .
(17) انظر صفة الصفوة - ابن الجوزى ، كتاب تاريخ الإسلام للذهبى - 3 / 164 .
(18) سورة الفجر - الآيتان 15، 16 .
(19) سورة الأعراف - الآية 168 .
(20) سورة النمل - الآية 40.
(21) رياض الصالحين - باب المراقبة .
(22) أحد علماء الدعوة والتبليغ بالهند .
(23) سورة الزخرف - الآية 51 .
(24) سورة القصص - الآية 78 .
(25) سورة البقرة - الآيتان 8 ، 9 .
(26) سورة العنكبوت - الآيات 1 : 3 .
(27) سورة العنكبوت ، الآيتان 10،11 .
(28) سورة البقرة - الآية 214 .
(29) سورة آل عمران - الآية 142 .
(30) سورة الحجرات - الآية 15 .
(31) الوابل الصيب من الكلم الطيب – لابن القيم – صـ 9 .
(32) فلا يذهبن خيالك إلى حصر البلاء في نوع واحد مثل دخول سيدنا يوسف عليه السلام السجن ، بل كل نبى كان له اختبار من الله عز وجل ، وكذلك كل مسلم يكتب الله له التمكين بعد تحمل البلاء حباً لله وطلباً لمرضاته ، فيتحمل لومة كل لائم آثماً كان أو كفورا ، فالآثم يحب الفسوق فيدعوك إليه ولا يقبل الدعوة أما الكفور فهو يتقلب في نعم الله فتشغله عن شكر المنعم فلا يقبل الدعوة حرصاً على أموالاً اقترفها أو تجارة يخشى كسادها أو مساكن تعلق قلبه بها قال تعالى] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [ ( سورة الانسان – 24) ] وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [ ( سورة المائدة – من الآية54 ) من الوالدين أو الأبناء أو الإخوان والأخوات أو الزوجة وهى أشد .] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[ ( سورة التغابن – الآيتان 14 ، 15 ) .
(33) سورة محمد – الآية 4.
(34) سورة محمد _ الآية 31
(35) انظر زاد المعاد لابن القيم – 2 / 75 ، والفوائد لابن القيم .
(36) أجاب عليه الشيخ فاروق - أحد علماء الدعوة والتبليغ - كراتشى - باكستان .
(37) سورة المزمل - الآية 10 .
(38) سورة الأحقاف - الآية 35 .
(39) سورة الروم - الآية 60 .
(40) سورة الأنعام - الآية 34 .
(41) سورة القلم – الآية 48 .
(42) سورة لقمان - الآية 17 .
(43) سورة السجدة - الآية 24 .
(44) كتاب عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم .